ترتيب الأولويات… بين بيوت الله وعباد الله

Rate this post

ترتيب الأولويات… بين بيوت الله وعباد الله

✍🏼. د. دعوة الأحدب.

في مشهدٍ متكررٍ من مدن سورية خرجت من أتون الحرب، تتزاحم التبرعات لإعادة ترميم مسجدٍ قديمٍ بتكلفة تفوق 150 ألف دولار، بينما على بعد أمتلر منه تعيش عائلاتٌ في بيوت شبه ساقطة لا تجد قوت يومها. مشهدٌ واحد، لكنه يفتح الباب واسعًا لتحليل نفسي واجتماعي لمفهوم ترتيب الأولويات في مجتمعاتٍ مثخنة بالجراح.

Madinah, Saudi Arabia – August 17, 2023 : View of Masjid al-Nabawi (Mosque of the Prophet)

عندما تختلط المفاهيم

يندفع بعض الناس – بدافع ديني أو اجتماعي – إلى التبرع لبناء أو ترميم المساجد، وقد يُبالغون في ذلك، بينما تمر أمام أعينهم أسرٌ جائعة، وأطفالٌ حفاة، وأرامل لا تجد ثمن الخبز. وهنا يبرز سؤال جوهري:
أين تذهب أموال الزكاة والصدقات و التبرعات؟ هل الأَوْلى بها تجديدُ جدرانٍ قائمة، أم أرواحٌ تتضور جوعًا؟

رؤية شرعية: الزكاة للإنسان أولًا

الزكاة والصدقات شُرعت في الإسلام لتحقيق التكافل الاجتماعي، وأُمرنا بإعطائها للفقراء والمساكين والمحتاجين.
يقول الله تعالى في مصارف الزكاة:
{إنما الصدقات للفقراء والمساكين…} [التوبة: 60]
ولم يذكر فيها بناء المساجد، فضلًا عن تجديدها أو زخرفتها. فالأَولى بها عباد الله لا بيوت الله، خاصة إذا كانت قائمة ويُصلى فيها.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” [رواه الطبراني]
فأين نحن من هذا الحديث، إن رأينا الجوعَ في وجوه جيراننا ولم نُطعمهم، لكن أنفقنا آلاف الدولارات على بلاط وجدران وزينة؟

تحليل نفسي للمشهد

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفسير هذا الميل إلى “الاهتمام بالمظاهر” بعدة أسباب:

1. البحث عن شعور بالسيطرة:
في المجتمعات الخارجة من الأزمات، يحتاج الناس إلى إنجازات ملموسة وسريعة، فيلجؤون لما هو مرئي، كترميم مسجد، بدلًا من الدخول في تعقيدات مساعدة الناس.

2. الإحساس بالهوية والانتماء:
المسجد يمثل رمزًا دينيًا واجتماعيًا، يشعر الناس أن بناءه يعيد لهم شيئًا من الثبات والكرامة.

3. الضغط الاجتماعي والديني المغلوط:
أحيانًا يُدفع الناس للتبرع للمسجد لأنهم يعتقدون أنه أعظم أجرًا، أو لأن أسماء المتبرعين تُعلن، بينما تبقى مساعدات الفقراء مجهولة ومتواضعة.

4. حب الظهور والمباهاة:
لا يمكن إغفال البُعد النفسي لحبّ الظهور، فبعضهم يبحث عن المجد الشخصي في جدار منقوش عليه اسمه، أكثر من بحثه عن دعوة صادقة من قلب يتيم.

إعادة ضبط البوصلة

الإسلام لم يأتِ فقط ليُعمر المساجد، بل ليُعمر النفوس. وليس في الشريعة ما يبرر أن تُصرف الزكاة في تجديد بناء مسجد قديم بينما الجائعون يتساقطون من البرد والمرض.

الخلاصة

في زمن الحاجة، يجب أن تكون الأولوية لحفظ النفس، قبل الحجر.
فكما قال الله تعالى:
{ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} [المائدة: 32]
الخيمة التي تُطعم قلبًا وتُسكن طفلًا، أولى بتبرعاتنا من مئذنة مزخرفة.