من المسلمات المعروفة حول مزاج الإنسان وحالته النفسية، أنها تتأثر بلا بالبيئة والجو المحيط بها، على سبيل المثال، لا يكون مزاج الإنسان الذي يحضر عرساً، مثل مزاج من يكون في مجلس عزاء، ولا تكون الحالة النفسية لمن يبشر بنجاح أو بمولود جديد، مثل حالة من يبلغه إصابة شخص عزيز عليه بمرض عضال، أو بفشله في الحصول على صفقة كان يأمل بها
ففي الحالة الأولى يشعر بالنشاط والبهجة والسرور، وفي الحالة الثانية يشعر بالحزن والصدمة، وهو ما قد يؤدي لحالات اكتئاب ويزداد احتمال دخول الإنسان في حالة اكتئاب إذا توالت عليه أكثر من حادثة أو ظرف سلبي في الوقت نفسه، ومن تلك الحالات، ما يعانيه كبار السن في المستشفيات، حيث تجتمع عليهم ظروف الشيخوخة، مع الجو السلبي للمستشفيات، حيث لا يحيط بهم إلا المرضى، وكل يشتكي ويتألم ويبث الطاقة السلبية فيمن حوله
فالأبحاث تشير إلى معظم كبار السن الذين تضطرهم حالتهم الصحية إلى الإقامة في المستشفيات، يصابون بحالات من الاكتئاب، غير أن طاقم الرعاية الصحية غالباً ما يجد صعوبة في تشخيص حالتهم النفسية المكتئبة، ناهيك عن تقديم الرعاية والدعم المناسبين وفي حال تمكنوا من تشخيص تلك الحالات، فإنهم يعالجون أغلبها بوصف الأدوية المضادة للاكتئاب، وقلما يحيلونها إلى العلاجات النفسية، أو يبلغون طاقم الرعاية المسؤول عنهم عند الخروج من المستشفى، فيؤثر ذلك على الرعاية النفسية المستقبلية لأولئك المكتئبين من كبار السن
إن الرعاية التي تنظر إلى “الشخص ككل”، بكل أمراضه، بحالته الصحية والنفسية الشاملة، والتي يقوم بها فريق متعدد التخصصات في طب الشيخوخة هي المعيار الذهبي لمعالجة مثل هذه الحالات، ولكن قد جرت العادة للأسف أن لا يأخذ الجانب النفسي حظه المطلوب من العناية، فلماذا هذا التقليل من أهمية المكون النفسي في رعاية الشخص المسن؟
الإجابة الأكثر شيوعاً هي على الأرجح الوقت، حيث يقوم المتخصصون بالموازنة بين الأولويات المتنافسة في الأقسام التي تعاني من ضغط العمل ونقص الموارد، فيسارعون في وصف الأدوية لتهربوا من توفير الوقت اللازم للعلاج النفسي
وهناك سبب شائع آخر هو نقص الثقة السريرية في تشخيص الاكتئاب، أو اعتباره أمراً شائعاً وطبيعيا لدى كبار السن، وهو أحد ما يعانونه من أمراض وخبرات حياتية
غير أن المسبب الأساسي للاكتئاب لدى كبار السن غالباً ما يكون الفقدان؛ فقدان الإحساس بالذات، والثقة، والاستقلالية، وفقدان الأصدقاء والعائلة بسبب وفاة من يحيطون به، وأخيراً، الخوف من وصمة عار التي ما تزال منتشرة حول المرض النفسي، ولا سيما في مجموعة من الناس اعتادوا على الصلابة وحيث لم تتم مناقشة مثل هذه الأمور بشكل علني في سنواتهم الأصغر
في حين أنه من غير الممكن تغطية جميع الأسباب التي قد تجعلنا نفشل في التعرف على الاكتئاب، فمن الممكن تسليط الضوء على ثلاثة مواضيع رئيسية لمعالجة هذه المشكلة، وهي التدريب: الفحص: العلاج. هذه المراحل قد تكون بمثابة “حل مؤقت” ولكنها بغض النظر عن ذلك فهي نقطة البداية في ضمان عدم ترك أي شخص خلف الركب
تشخيص الحالات بمعرفة ظروفها
قبل أن نبدأ بتشخيص أي حالة على أنها اكتئاب، نتذكر تقبل ما هو طبيعي
من الطبيعي أن يشعر نزيل المستشفى بالخوف، وهو محاط بالمرضى والضعفاء والمحتضرين. ومن الطبيعي أن يشعر بالسوء بعد العملية الجراحية، ومن الطبيعي أن يشعر بالإحباط إذا لم يتقدم بالسرعة التي يرغب بها. ومن الطبيعي أن يشعر بالضيق في جناح يضم 6 أسرّة، محاطاً بأشخاص مرضى ومملين، حيث يكون المكان صاخباً ولا يمكنه سماع أو رؤية التلفاز لأنه لا يصل لنظاراته وسماعة أذنه، من الطبيعي أن يشعر بالبؤس لأنه مر أسبوع منذ آخر زيارة له
غالباً ما يكون انخفاض المزاج رد فعل تكيفي طبيعي للمرض، أو لمعاناة بعض الخسارة، أو لمجرد التواجد في المستشفى، لذلك، قبل أن نشخص الجميع بالاكتئاب، دعونا نساعد الناس على “تطبيع ردود أفعالهم وليس إضفاء الطابع المرضي عليها”
علينا أن نفكر: هل هذا الشخص حزين أو خائف لأنه لا يعرف حقاً ما هو الخطأ، أو لأنه ينتظر نتائج مهمة، أو لأنه غير متأكد مما يحدث؟ استخدم طاقمك الطبي لضمان التواصل الواضح وخذ الوقت للتحدث مع المريض حول طبيعة مخاوفه وشرح النتائج والتشخيصات
هل هناك حلول بسيطة لتلك الحالات عند اكتشافها؟
بالتأكيد لا، يجب أن يكون التدريب معقداً، إذا كان هدفنا هو زيادة الوعي كنقطة بداية
يتضمن التحديد السريع للاكتئاب اعتبار أن ‘الاكتئاب’ هو انخفاض في المزاج أو فقدان الاهتمام أو المتعة الذي يستمر لأكثر من أسبوعين ويأتي أيضاً مع أربعة على الأقل من الأعراض التالية
تغيرات ملحوظة في الشهية
فقدان الوزن
فقدان الطاقة أو الدافع
مشاكل في النوم
فقدان الطاقة
النقد الذاتي غير المبرر
الشعور بعدم الفائدة
الشعور بانعدام القيمة
أفكار انتحارية أو الشعور بأن الموت أفضل
يجب أن تكون هذه العلامات في غياب ظواهر أخرى مفسرة سريرياً، على سبيل المثال ضيق التنفس الذي يؤدي إلى انخفاض الطاقة، أو عسر البلع الذي يؤدي إلى ضعف الشهية – على الرغم من أننا نعلم أنه في حالة كبار السن والمرضى المصابين بأمراض متعددة، قد لا يكون هذا الأمر بسيطاً تنسيق الحالات ومتابعتها
هناك العديد من الأدوات المتاحة التي ستساعد الأطباء على إجراء تشخيص موثوق به نسبياً، دون أن يثقل عليهم بإجراءات طويلة
يجب أن يكون نظام الإحالة المناسب على رأس قائمة الأولويات، أي أن يكون هناك توثيق دقيق للحالة، وتنسيق مع الأقسام الطبية الأخرى، ثم إحالة المريض إلى القسم المناسب للدعم داخل المستشفى من خلال الطب النفسي التواصلي، وهو فرع من فروع الطب النفسي، يختص تقديم الدعم والرعاية النفسية للمرضى الذين يُعانون من مشكلات نفسية أثناء تلقيهم العلاج في المستشفيات، وخاصة في الأقسام غير النفسية مثل أقسام الطوارئ، والأمراض الباطنية، والجراحة، مع الاهتمام بتسجيل التشخيصات الجديدة بوضوح في وثائق الخروج، وإظهار الإحالة للمتابعة بشكل واضح يجب إجراء التقييمات بموافقة كاملة ومراعاة الأهلية، مع شرح سبب إجرائها، وما تأمل في تحقيقه. حيثما أمكن، يجب إجراء التقييمات في منطقة هادئة خالية من المشتتات… مع مراعاة من قد يسمع في الأجنحة الكبيرة
قائمة الأدوات أدناه مفيدة للسهولة والسرعة، لكن تذكر أنها مجرد مؤشرات للأعراض وليست بديلاً عن التاريخ السريري الجيد والحكم الطبي
(HADS) مقياس القلق والاكتئاب في المستشفى
(GDS) مقياس الاكتئاب لكبار السن
مقياس كورنيل (عندما يكون الخرف أيضاً موجوداً)
في سبيل العلاج الناجح
إن مساعدة المريض على الحفاظ على الروتين الطبيعي سيدعم ثقته بنفسه، ومساعدتهم على أن يعتنوا بأنفسهم بشكل مستقل (حيثما أمكن) قد يقلل أيضاً من فقدانهم للتأقلم مع ظروفهم، ويجب أن نهدف إلى حصولهم على ظروف جيدة للنوم، عن طريق تقليل الضوء والضوضاء والفوضى من جولهم، وتقديم المشروبات الخالية من الكافيين أو المشروبات التي تحتوي على الحليب بعد الساعة 6 مساءً، وتقديم وسائل مساعدة أخرى مثل أقنعة النوم وسدادات الأذن
من المفيد أيضاً ساعدتهم الناس على البقاء نشطين خلال النهار ، وضمان وصولهم الناس إلى الأشياء التي تجعلهم يشعرون بالأمان، بما في ذلك هواتفهم المحمولة وأجهزتهم اللوحية، وكذلك صور أحبائهم، ويجب أيضاً الحرص على تهيئة الظروف المناسبة لتأدية طقوسهم الروحية في المستشفى، بغض النظر عن الخلفية الدينية
يجب أن نحاول مساعدة الناس على التعبير عن مخاوفهم والبحث عن حلول فورية للمشاكل التي تطرأ بشكل مفاجئ، وتجنب التفكير في السؤال الشهير “ماذا لو”، وسؤالهم باستمرار “كيف يمكنني مساعدتك الآن؟”، وواهدف إلى تحدي النقد الذاتي برفق لمساعدة الشخص على اتخاذ نظرة متوازنة للمشكلة أو الاستجابة.
كما يمكن أن تكون تمارين اليقظة الذهنية مفيدة أيضاً، وهناك الكثير منها على الشبكة، يمكن لأحد أفراد الطاقم المعالج أن يقضي بضع دقائق مع غرفة مليئة بالمرضى ليرشدهم إلى تلك التمارين
عندما يكون الاكتئاب أكثر حدة، فإن الإحالة إلى فريق الطب النفسي الاتصالي هي دائماً خيار لا بد منه، حيث يمكنهم تقديم المشورة بشأن النُهج المناسبة والأدوية والمتابعة. ورغم التوصية دائماً بتخفيض وصف مضادات الاكتئاب، لأن العديد منها له آثار جانبية، غير أنها لا بد من استخدامها عندما يكون هناك مؤشر سريري يتطلب ذلك
أخيرا، لا بد من مراجعة طبية شاملة للحالة قبل بدء الوصفات الطبية الجديدة، ويجب أن يكون الشخص (أو وكيله عند الاقتضاء) موافقاً على استخدامها
لا يوجد مضاد اكتئاب واحد شائع للاستخدام العام بحيث يمكن لطبيب غير مختص بأمراض النفس أن يصفه، وهذه أشهر المضادات في هذا المجال
سيرترالين 50 ملغ لديه أقل الآثار الجانبية القلبية
QTc.ميرتازابين بجرعة 15 ملغ جيد للقلق وتحسين الشهية والنوم، لكن مراقبة وظائف الكلى ضرورية. يجب أيضاً فحص QTc.
من المؤسف أن الاكتئاب الناتج في بيئة المستشفيات العامة غير معترف به بشكل كافٍ، وهو أمر ينبغي أن يتغير، وأن يعطى المزيد من الاهتمام لهذا النوع من الاكتئاب، وذلك لأنه بعمل قليل وتغييرات طفيفة في تعامل الطاقم الطبي مع هذه الحالات، ستترك تأثيراً كبيراً على المرضى الذين تحت رعايتهم، وسيؤدي دعم أولئك المرضى بالاكتئاب، وإدارة حالاتهم بطريقة حيدة، فوائد إيجابية كبيرة في تقليص وقت تعافي المرضى ونجاح إعادة تأهيلهم